Thursday, June 21, 2018

نختارُ ولا ندرك أنّ اختيارنا جزءٌ من اختيارٍ أكبر..



لم أحلُم يوماً أن أكونَ معلّمة. لطالما تخيّلتُ نفسي صحفيةً مميّزة أو مقدمة برامج إذاعية ناجحة، لطالما قيل لي بأنني أمتلك صوتاً إذاعياً جيداً جداً ولغةً عربيةً فصيحة ممتازة بشكلٍ يجعل أمر حصولي على عمل في المجال الذي أُحب أمراً ممكناً جداً وليس بالصعب أو المستحيل. وجدتُ العديد من دورات التدريب الإذاعي بعد أن تخرّجت من الجامعة بأيّام، واعتزمتُ التسجيل فيها في أقرب فرصةٍ ممكنة، إلا أنّ الخطة تغيّرت فيما بعد، لأقرر أن أبحث عن فرصة عملٍ أمارس من خلالها اللغة الإنجليزية -التي درستُها- وأستقر في عملٍ ما قبل إقدامي على التدرّب وممارسة ما أُحب.

قدمتُ طلباً لتقديم إختبار لغة إنجليزية للعمل كمعلّمة في الأونروا بعد تخرّجي بأسابيع، وحاولتُ أن أقنع نفسي بأنّ الأمر ليس بالمستحيل وأنني قوية بما يكفي لأجتاز الإختبار والمقابلة رغم أنّ خبرتي العملية آنذاك كانت محدودة بشكلٍ لا يصّدق. ذهبتُ إلى مكان عقد الإمتحان ووجدتُ العشرات ينتظرون ويستعدون، إبتسمتُ برهبةٍ وسخرية وتسائلتُ عن سبب وجودي هناك وعن جدوى ما أفعل! لم أصدق أن اسمي حقاً ظهر مع الناجحين بعد أسابيع، وأنّني حقاً سأجري مقابلة رسمية حقيقية باللغة الإنجليزية مع أكثر الناس خبرةً وعلماً في مجال التدريس. مضت تلك الأيام وأنا أكلّم نفسي ليلَ نهار في محاولةٍ مني لأتدرّب، وساعدني في ذلك عملي في أحد المراكز كمدرّبة للّغة الإنجليزية. مضت المقابلة بشكل أفضل مما كنت أتخيّل، لم أتوقّع أن أكون بتلك الجرأة والعفوية والثقة. لقد فعلتُها، وحصلتُ على العمل!

ذهبتُ في أول يوم عملٍ لي لأجد نفسي في بيئةٍ لم أرها في حياتي، لأتعامل فقط مع الذكور! لم يكُن الوضعُ عادياً أو طبيعياً البتّة، إعتدتُ أن أبكي لساعة أو اثنتين يومياً بمجرد وصولي البيت طيلة الشهور الأولى، ولستُ أبالغ أبداً إن قلتُ بأنها كانت أسوأ الأيام التي عشتها في كلّ حياتي. لقد كانت بيئةً عنيفة، يصعب فيها التعامل مع الطلاب الذين كانوا عدوانيين وفوضيين بشكل غريب. دعوتُ كثيراً أن أنتقل في العام التالي للعمل في بيئةٍ أفضل لأجد نفسي في مدرسة ذكورٍ أخرى فيما بعد.  

تلك التجارب جعلتني في صراعٍ بين عدةِ أمور: كنتُ لا زلتُ أتعلم كيف أصبح معلمةً ناجحة وغير عادية، وكنتُ أحاول ضبط البيئة والظروف والتعامل معها بحنكة وحكمة واتّزان ما استطعت. حاولتُ كثيراً أن أجعل تعاملي مع الطلاب مختلفاً بحيث أجعلهم يحبّون حصة اللغة الإنجليزية، لا أن يخافوا منها، وبحيث تكون علاقتي معهم مبنية على الإحترام والنظام واللباقة، لا على الترهيب أو الجمود أو التخويف أو ما شابه. حاولتُ كثيراً أن أكون عادلة، متفهّمة، داعمةً لقِيَم الحق والشجاعة والخير، داعمةً لكل ما هو 
.مختلف ومميز ويستحق الإهتمام والتحسين والصقل.

لطالما تذكرت أستاذي الذي طلب منّا أن نكتُب تقريراً عن بيت شعر من قصيدةٍ شهيرة لشكسبير، وأمهلنا 3 أيام من الإثنين إلى الخميس لنكتبها بشكلٍ متقن ودون أيّ أخطاء. ذهبتُ إلى الجامعة صباحَ الخميس بعيونٍ منتفخة لم تنم طوال الليل، بابتسامةٍ عريضة وقلبٍ يكاد يطير فرحاً وفخراً بذلك التقرير الذي أخذ من وقتي 3 أيامٍ آنذاك. أمسكتُ الورقتين بعناية طيلة الطريق وتعمدتُ ألا أقوم بطيّهما حرصاً مني على تسليم ما كتبت بأفضل شكلٍ ممكن. أعطيتُ الأستاذ تقريري بينما كان يجمعُ التقارير وينظر إليها وانتظرتهُ ليرى ما كتبت. بشكلٍ غير متوقّع، قام بتمزيق كل التقارير -ومن بينها تقريري- ومن ثمّ قام -ضاحكاً- برميها في سلّة المهملات: "لم تكتُب أيٌ منكنّ شيئاً! إن كلّ هذه التقارير منسوخة من صفحاتٍ على الإنترنت وأنا متأكد من ذلك، ههه!". شعرتُ بخيبةِ أملٍ لا تُوصف ذلك اليوم وبرغبةٍ شديدة بالبكاء وقلتُ في نفسي أنّه لتكون معلماً ناجحاً فإنّ الأمر يتطلبُ منك أكثر من مجرّد التدريس! لستُ أنسى تلك المعلمة التي قالت لي: "إخرسي" أمام جميع الطالبات حين كنتُ طالبة في الإعدادية رغم أنني لم أرتكب أي ذنب أو خطأ، فقط لأنني طلبتُ منها -وبكلّ تهذيب ولباقة- أن أغيّر مكان مقعدي المجاور لمقعد طالبةٍ تقيّأت قبل ذلك بلحظات! ولا تلك المعلّمة التي حرمتني من دخول إمتحان نصف الفصل في الثانوية وتسبّبت بضياع الكثير من وقت الإمتحان فقط لأنني كنت مريضة جداً ولم أستطع تنظيف باحة المدرسة مع زميلاتي في ذلك الصباح البارد، رغم أنني كنت من طالباتها المميزات. ولا يمكن أن أنسى تلك المرات العديدة التي عوقبتُ فيها بقسوة لم أستحقها يوماً بسبب ما يُسمّى ب"العقاب الجماعي". حاولتُ أن أكون بعيدةً كلّ البُعد عن تلك النماذج التي صادفتُها حين كنت طالبة، تجنّبتُ التعميم والتسرّع وإطلاق الأحكام والتمييز واتبّاع الأهواء، لأدرك فيما بعد أن التعليم ليس بذلك السوء الذي كنت أتخيّل.

لسنا فقط نُعلِّم بل كذلك نتعلّم. صادفتُ بعض الأطفال الذين تعلّمتُ منهم أشياءَ كثيرة: (العالم مكانٌ جميل إن أردنا ذلك، وهو أيضاً مكان موحش وتعيس إن نحنُ قررنا ذلك. أبسط الأشياء يمكنها أن تسعدنا وتجعل ليومنا نكهة رائعة، كرؤية نقار الخشب فوق الشجرة المجاورة لغرفة الصف وسماح المعلمة لك بمشاهدته ومراقبته مثلاً، أو كحصولك على ممحاة "سبايدر مان" كجائزة لأنك أجبت إجابة صحيحة على أحد الأسئلة. هناك دائماً ما يجعلنا نندهش! كرؤية قوس قزح في السماء، كرؤية أساتذتك يلعبون الكرة مع الطلاب أو مع بعضهم البعض، كرؤية معلماتك يأكلن ويشربن كالبشر الطبيعيين، أو كرؤيتك للمطر يداعب نوافذ غرفة صفك. هناك وسائل مختلفة للتعبير، فإن كنت ممنوعاً من الكلام باستطاعتك الإشارة للأشياء بملامح وجهك، وإن لم يكُن الأمر ممكناً فإنك تستطيع أن تكتب ما تريد قوله على ورقةٍ صغيرة أو على ممحاة وإرسالها، وإن كان الأمرُ صعباً ضع تلك الورقة الصغيرة في حذائك وألقِها بجانب صديقك بينما تمشي، المهم أن إيصال كلماتك وأفكارك هو دائماً أمر ممكن إن كان الأمر مهماً بالنسبة لك ويعنيك. الأشياءُ دائماً أجمل وأكثر متعة حين تشاركها! أجمل الأوقات هي تلك التي تشارك فيها طعامك وألعابك وأشيائك مع أقرب أصدقائك. إن لم يحب الآخرون الأشياء التي تحبها أنت فأنت غير مُلزم بجعلهم يحبونها، وكذلك لست ملزماً بشرح الأسباب التي تجعلك تُحب ما تُحب، عِش في عالمك مع الأشياء التي تُحب والأشخاص الذين تُحب ولا تأبه لشيء).

إنني مُمتنة. ممتنةُ لكل تلك التجارب التي عشتُها -ولا زلتُ أعيشها- ولكلّ أولئك الذين عرفتُهم وتعاملتُ معهم. مُمتنةٌ لأنّ الله ألهمني السير في طريقٍ أدركتُ فيما بعد أنني تعلمتُ فيه الكثير. مُمتنةٌ لأنني أرى نفسي الآن بطريقة مختلفة، ولأنني اكتشفتُ بداخلي أشياءَ لم أتخيّل أنني أمتلكها من قبل. ممتنةُ لأنني أدرك شيئاً جديداً كلّ يوم، لأنني أدرك أن كل هذه العقبات والمشقّات والصعوبات لم تزل بعد لأن الدروس التي ينبغي لي أن أتعلّمها وأتقنها لم تنتهِ بعد. ممتنةُ لأنني لا زلتُ أتعلم ألا أنتظر أيّ مراعاة أو تقدير لما أمرُّ به من أيّ أحد. مُمتنةُ لأنني لا أنفك أنظر للجانب المشرق من الأمور وأبحث عن أيّ بصيص أمل يُنير طرقي القاحلة المُعتِمة مهما كلّف الأمر. ممتنةُ لأنني أعلم أن الأجمل والأنسب دائماً يأتي عند إيماننا بذلك، مهما بدت الأمور صعبة أو بعيدة المنال.   

No comments:

Post a Comment